العنوان الاصلي:التحرير الإسلامي لمدينة تكريت
سنة 16هـ/637م
الأستاذ الدكتور
محمد جاسم حمادي المشهداني
- الجامعة المستنصرية-
ملاحظةعن المقالة: هذا البحث منشور خلال حقبة التسعينات من القرن الماضي ضمن سلسلة من البحوث التاريخية و الثقافية و الادبية التي اجريت حول مدينة تكريت و معظم المدن العراقية.
بعد معارك ناجحة للمسلمين في جنوب العراق وغربه ووسطه، تم تحريره من الغزو الأجنبي
إثر النجاح الكبير في القادسية وبعد استقرار مؤقت في المدائن خططت القيادة العسكرية
الإسلامية مواصلة حروب التحرير باتجاه الشرق وشمال العراق حيث كانت مدينة تكريت أحد
أبرز اهداف التحرير.
و نظرا لقيمة المعلومات التاريخية و أهميتها في البناء الهيكلي للمادة
التاريخية التي نريد البحث عن حقائقها لبيان قيمتها و أهميتها لا بد لنا من وقفة
عند مصادر المعلومات التاريخية المتعلقة بتحرير تكريت, قبل الخوض في تفاصيل
الحوادث التاريخية لان قيمة أي معلومة تاريخية و درجة توثيقها ترتبطان ارتباطا
وثيقا بمدى ثقة المصدر الراوي لها, فبعد رجوعي الى المصادر التاريخية المتعلقة
بتحرير تكيت وجدت ان المصدر الرئيس لتلك المصادر هو رواية المؤرخ سيف ابن عمر
التميمي (ت180 هـ) و عنه انتقلت الرواية الى المؤرخين الذين جاءوا من بعده و على
نحو يكاد يكون متشابها تشابها دقيقا في تفصيلاته و جزئياته عدا بعد الالفاظ في بعض
الكلمات التي تتفاوت تفاوتا بسيطا بين مؤرخ و آخر و ان الذين اخذوا برواية سيف بن
عمر كانوا قد اخذوها عن طريق المؤرخ محمد بن جرير الطبري ( ت 310 هـ) الذي كان
ناقلا للرواية علما ان هذه الرواية لا وجود لما يناقضها أو يعارضها في المصادر الأخرى
و تكاد تكون فريدة في محتواها و في درجة توثيقها.
ولأهمية المعلومات التاريخية المتعلقة بتحرير تكريت لكونها المصدر الرئيس
لمعلوماتها فلا بد لنا من بيان القيمة التاريخية لتلك الرواية من خلال اعتمادنا
منهجية التحليل والتعليل والاستنتاج لأسانيد تلك الرواية مع التأكيد على أهمية التسلسل
التاريخي بالقدر الذي وفرته لنا المصادر التي اعتمدناها عنها فقد كان لمصادر و كتب
الرجال و كتب الجرح و التعديل أثر بين في توثيق أولئك الرواة او تجريحهم لكي
نستخلص من خلالها معرفة القيمة العلمية و التاريخية لتلك الرواية.
ويمكن متابعة القيمة التاريخية لتلك المعلومات من خلال النقاط الآتية:
ان منبع الرواية هو المؤرخ سيف بن عمر التميمي الضبي السعدي الكوفي (1) الذي كان معاصرا لفترة الخلافة الاموية والعباسية
ابتداءاً من سنة 100هـ/717 م حتى وفاته سنة 180هـ/797م ولقد كان سيف بن عمر
التميمي محط انظار علماء الجرح والتعديل الذين اشادوا بمكانته في المرويات
التاريخية وبخاصة في الفتوح فقد قال عنه الذهبي (ت 748 هـ): ((مصنف الفتوح والرواية
... وهو كالواقدي ... كان اخباريا عارفا)) (2)، قال عنه ابن حجر (ت 852 هـ): ((كان عمدة
في التاريخ)) (3)
ويعد كتابه ((الفتوح الكبير)) من ابرز كتبه التي تناولت معلومات مفصلة عن
تاريخ تحرير العراق و لا سيما معارك الولجة و المذار و الحيرة و عين التمر و
البويب و القادسية و المدائن و نهاوند و تكريت و الموصل (4) و غيرها و لقد استقى سين أبن عمر معلوماته
عن فتح تكريت من خمسة مصادر أساسية اذ جاء في سياق تلك الرواية ما أورده الطبري (ت
310 هـ) بقوله: ((كتب الي السري عن شعيب و عن سيف، عن محمد، و طلحة، و المهلب، و سعيد،
و شاركهم الوليد بن عبد الله بن أبي طيبة ... قالوا ... (5) )).
فمصادر رواية سيف بن عمر عن تحرير تكريت هي: -
1- أبو المهلب مطرح بن يزيد الاسدي الكوفي (ت بعد 100هـ):
لقد توهم الطبري ومحققه عندما ذكراه باسم ((المخلب))
وهو شيخ من شيوخ سيف وكان مختصا برواية الفتوحات الإسلامية (6).
2- الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري المكي الكوفي (ت بعد 100 هـ):
وهو ثقة ثبت وأكد ابن عساكر رواية سيف عنه (7).
3- محمد بن سوقة الكوفي العابد (ت 120 هـ): وهو مؤرخ ثقة وكان من المهتمين بأخبار
الفتوح وروايتها (8).
4- سعيد بن المرزبان العبسي مولاهم الكوفي (ت بعد 140 هـ):
وهو مؤرخ صدوق واغلب مرويات سيف عنه تتعلق
بفتوح العراق ولاسيما واقعة القادسية (9).
5- طلحة بن الأعلم، أبو الهيثم النخعي الكوفي وهو من ثقات الشيوخ وروى عنهم
سيف ما يزيد على (182) رواية عن معارك تحرير العراق وغيره من المناطق (10).
مما تقدم تبين لنا ان مصادر تحرير تكريت
تتسم بالثقة والأمانة تبعا لتوثيق رواتها وبخاصة ما تضمنته من تفاصيل عن السوق
العسكري في عملية تحرير تكريت، وتقسيمات الجيش وموقف القبائل العربية من عمليات
تحرير تكريت ونتائج التحرير وانتقلت مرويات هؤلاء الخمسة الى المؤرخ شعيب بن إبراهيم
النخعي الكوفي الذي نقلها عنه تلميذه السري بن يحيى بن السري التميمي الكوفي و هو
مؤرخ صدوق (11) كان مختصا برواية الفتوح و الاخبار ثم انتقلت مروية السري الى مؤرخنا
الطبري (ت 310 هـ) الذي قال عنه الخطيب البغدادي (... كان احد أئمة العلماء بقوله
, و يرجع الى رأيه لمعرفته) (12) .
اذن مصدر المعلومات المتعلقة بتحرير تكريت
تتسم بالأمانة و الثقة مما يزيد من قيمة تلك المعلومات و أهميتها و لذلك تعد رواية
سيف بن عمر من أدق الروايات المتعلقة بتحرير المدينة و أوسعها و أوثقها بل فاقت في
تفاصيلها ما ورد عند مؤرخين مختصين بالفتوحات كالبلاذري ( ت 279 هـ) الذي جاءت
روايته مقتضبة جدا بل غامضة كما ان مصادرها غير دقيقة فقد جاء فيها كما قال
البلاذري (( وحدثني شيخ من أهل تكريت انه كان معهم كتاب امان و شرط لهم ... )) كما
استخدم البلاذري صيغة الاسناد الجمعي في رواية ثانية عن تحرير تكريت و باجرمي و
شهرزور كما ان روايته الثالثة كان مصدرها ضعيفا و غير موثوق و هو الهيثم بن عدي
الكوفي الذي شكك البلاذري نفسه في مرويته بقوله : (( وزعم الهيثم بن عدي ... و
الله تعالى اعلم)) (13) . كما ان رواية البلاذري بمصادرها الثلاثة لا تتجاوز
خمسة أسطر وغير دقيقة وغير واضحة قياسا الى رواية سيف بن عمر التميمي الذي كان
مصدرا للطبري وابن الأثير وابن كثير وابن عساكر وياقوت الحموي وغيرهم.
ومدينة تكريت تتمتع بموقع جغرافي ممتاز بين مناطق شرق العراق وغربه وشماله وجنوبه
حيث تعد عقدة مهمة على طرق المواصلات التي تربط مناطق العراق ولذلك فأنها تتمتع
بموقع عسكري واستراتيجي مهم إضافة الى كونها تمثل البوابة الجنوبية لمنطقة الجزيرة
الفراتية (14) الممتدة بين الخط الممتد من تكريت و هيت جنوبا الى منابع دجلة و الفرات
شمالا و من المناطق الممتدة على سواحل دجلة الغربية الى سواحل نهر الفرات الشرقية
و لذلك كانت المنطقة محط انظار الفرس و الرومان في السابق ذلك لأن الذي يسيطر على
تكريت يتمكن من التحكم في المنافذ الجنوبية لهذه المنطقة ثم هي تمثل نقطة البداية
للمسلمين للانطلاق منها صوب الموصل و التخوم الجنوبية للإمبراطورية الرومانية و
لذلك اختارتها القيادة العسكرية الإسلامية هدفا من أهدافها و بخاصة ان الفرس بعد
هزائمهم في جنوب العراق و الروم بعد معاركهم مع العرب في الشام قد تناسوا خلافاتهم
و وحدوا صفوفهم لمواجهة المسلمين فلأول مره يتحول العداء الفارسي الروماني الى
تحالف موجه ضد المسلمين و يمكن إيضاح هذا الموقف في النقاط الآتية:
أ- اجتماع الروم الى الانطاق واقباله مع من معه من الموصل ونزوله بتكريت حيث
خندق فيها استعدادا لمواجهة الجيش الإسلامي باتجاه منطقة الجزيرة الفراتية والموصل
اذ عد الروم مدينة تكريت خط دفاعهم الأول عن حدود الإمبراطورية الجنوبية، قال
المؤرخ سيف بن عمر التميمي (ت 180 هـ):
((ان الانطاق سار من الموصل الى
تكريت وخندق عليه ليحمي أرضه ...)) ويروى انه كان مع الروم جماعة من الفرس في
مدينة تكريت متخندقين معا لتحصين موقفهم الدفاعي في مواجهة المسلمين.
ب-اجتماع الفرس في الوقت نفسه في مدينة جلولاء على مهران
لمواجهة المسلمين (16) ولذلك اتفق أعداء المسلمين التقليديون على وجوب إيقاف تقدم
القوات الإسلامية باتجاه شمال العراق وشرقه في الوقت نفسه كان القادة المسلمون
يتابعون تفصيليا هذا الموقف بدقة متناهية فقد كان القائد سعد ابن أبي وقاص يكتب
مباشرة الى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بالتفاصيل فيروى ان سعد
بن ابي وقاص قد كتب: ((في اجتماع اهل الموصل الى الانطاق، وأقباله حتى نزل بتكريت
... و في أجتماع اهل جلولاء على مهران معه (17) )).
ولذلك تعد عمليات تحرير تكريت مرادفة لعمليات تحرير
جلولاء ومكملة لعمليات تحرير العراق اذ حدد القادة المسلمين هدفين رئيسيين يمكن
تحقيقهما في اعقاب تحرير تكريت و جلولاء وهما: -
أ- استكمال العمليات العسكرية لتحرير العراق عن طريق الاندفاع شمالا من تكريت
التي تمثل بوابة العراق باتجاه الشمال وبخاصة منطقة الجزيرة الفراتية والموصل التي
كانت من المراكز الأساسية لاستقرار القبائل العربية منذ القدم حيث ان المنطقة سميت
بأسماء تلك القبائل كديار مضر و ربيعة و بكر و ما سيترتب على مشاركة هؤلاء العرب
في فعاليات الجيش الإسلامي المقبلة.
ب-
استكمال تحرير الأجزاء الشرقية والشمالية
الشرقية من العراق تمهيدا لتحرير إيران والمشرق.
ونعود الى عرض الوقائع التاريخية المتعلقة بتحرير المدينة فقد كانت القيادة
العسكرية الإسلامية قد اعدت للمعركة عدتها ابتداءاَ برجالها عندما قرر الخليفة
الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ان يكون القادة لتحرير تكريت من رجال صحابة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلق ابن حجر على اختيار الصحابة لقيادة عمليات
تحرير تكريت بقوله: ((... أنهم كانوا لا يؤمرون في الفتوح الا الصحابة)) (18): وأبرز قادة تحرير تكريت:
1- عبد الله بن المعتم: قائد العمليات العسكرية العليا وهو الصحابي عبد الله
بن مالك بن المعتم العبسي، أحد التسعة الذين وفدوا على النبي صلي الله عليه وسلم
من عبس، اذ عقد له رسول الله عند إسلامه ((لواء أبيض)) (19). وكان من الذين شاركوا في معارك القادسية
حيث كان على احدى المجنبتين في المعركة وفي رواية ان كان على مقدمة سعد ابن ابي
وقاص من القادسية الى المدائن وسيره سعد الى تكريت.
2- ربعي بن الافكل العنزي: وكان
على المقدمة وهو الصحابي الجليل الذي كان له مشاهد معروفة في فتوح العراق (20).
3- الحارث بن حسان الذهلي: كان قائدا للميمنة وكان
ممن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وشارك في فتوح القادسية وبعد تحرير تكريت أرسل
على رأس جيش الى سرخس (21) بعد اسهامه في فتوح خراسان.
4- فرات بن حيان بن ثعلبة العجلي: كان قائدا للميسرة وهو الصحابي الجليل الذي
قد هاجر الى النبي صلى الله عليه و سلم و أقطعه ارضا باليمامة و شارك في واقعة
القادسية إذا كان مع الصحابة الستة الذين ارسلهم سعد بن ابي وقاص الى رستم يدعوه
الى الإسلام قبيل ابتداء معارك القادسية.
5- هانئ بن قيس وهو صحابي جليل وكان على الساقة.
6- عرفجة بن هرثمة: وكان على الخيل.
وهو الصحابي الجليل الذي كان الخليفة الراشد
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد قال عنه لعتبة ابن غزوان عندما أمده به: ((شاوره
فانه ذو مجاهدة)) وقد عين على الخيل في عمليات تحرير تكريت وله تأثير في معارك
تحرير الخليج العربي مع القائد علاء بن الحضرمي سنة 14 هـ (22).
وبذلك يمكن ان ندرك مدى استعدادات القيادة الإسلامية
وعلى رأسها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في اختياره خيرة القادة
الموجودين في العراق من صحابة رسول الله لتحرير تكريت ما يبين إدراك القيادة الإسلامية
أهمية النتائج التي ستحقق اعقاب تحرير تكريت.
اتجه الجيش الإسلامي من المدائن باتجاه
مدينة تكريت وكان تعداده يقدر ب (خمسة الاف) مقاتل واستغرقت عملية تحركهم من
المدائن الى تكريت مدة أربعة أيام كما يشير الى ذلك سيف بن عمر في روايته. (23).
اما عن القوات الرومانية فإنها تحشدت في
مدينة تكريت منذ وقت مبكر واستكملت استعداداتها العسكرية وتحصيناتها الدفاعية على
نحو جيد و كان معهم من القبائل العربي اياد، و تغلب، و النمر و كذلك الهجارشة
الذين تخندقوا في المدينة استعدادا لمواجهة الموقف.
لقد كانت تحصينات المدينة قوية جدا فقد كان
يحيط بها سور عظيم ويليه خندق واسع عميق إضافة الى القلعة الحصينة التي يحيط بها
سور محصن وتتميز بمناعتها في حين يكون نهر دجلة من جهتها الشرقية مانعا طبيعيا
ممتازا وليس من السهولة اجتيازه بسبب سرعة جريانه وشدة انحداره إضافة الى ان
الساحل الشرقي المقابل لتكريت كان لايزال خارج نطاق السيادة الإسلامية وهذا يكون
صمام الأمان للقوات الرومانية المحصنة في المدينة. (* إضافة المدونة: كما ان
الجانب المحاذي للنهر من تكريت هو عباره عن هضبه من الصعب صعودها في ظل وجود
حاميات القلعة)
اما القوات الإسلامية فإنها كانت على
استعداد تام لإنجاز عمليات تحرير المدينة فقد كانت تلك القوات معبئة تعبئة نظامية
وفق خطة تعبويه امتازت بقدرة على التنظيم و بينت قدرة القيادة العسكرية على
التخطيط و المواجهة فقد كان الجيش منظما وفق نظام المقدمة و المؤخرة و الميمنة و
الميسرة اذ كلفت كل جهة بواجبات محددة لها.
إضافة الى ذلك ان الجيش كان يضم خيرة
المقاتلين العرب الذين خبروا معارك القادسية و المدائن كما ان اختيار قادة الجيش
من صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم و بعضهم كان له تأثير متميز في معارك
القادسية و ما قبلها.
وكان الجيش الإسلامي يتمتع بمعنويات عالية
جدا و بخاصة ان نشوة النصر الكبير على الفرس في القادسية و المدائن ما تزال فيهم
ولذلك كان الجيش الإسلامي مهيأ نفسيا و فكريا لتحرير المدينة إضافة الى كل ذلك ,
الامل الكبير الذي عقده القادة على أبناء القبائل العربية في تكريت و بخاصة اياد و
تغلب و النمر الذي كان لهم شأن في تحرير المدينة كما سنرى.
لقد فرضت القوات الإسلامية حصارا على مدينة
تكريت من جميع جهاتها الجنوبية و الغربية و الشمالية و شددت حصارها على المناطق
المقابلة لأبواب المدينة و ذلك على امتداد سورها الخارجي عد الجهة الشرقية التي
كان نهر دجلة يحاذيها وهو مكون مانعا طبيعيا جيدا للمدينة، و دام الحصار المفروض
على المدينة مدة (40 يوما) (24).
و هي فترة طويلة في قياسات ذلك الزمن وما
يترتب على المدينة المحاصرة من حاجة الى امدادات و تموين و غير ذلك بالإضافة الى
صعوبة توفير الامدادات الأساسية للقوات المحاصرة بسبب البعد المكاني بين تكريت و
عمق الأراضي الرومانية و بسبب مرور طريق الامداد بأراضي تحت سيطرة المسلمين و لذلك
استخدم الجيش الإسلامي أسلوب حرب الاستنزاف على المحاصرين في تكريت و لم يقوموا
بعملية اقتحام مباشر و سريع للمدينة و انما كانت هناك معارك متواصلة مع المحاصرين
من ثلاث جهات و استمرت المعارك (40) يوما و بواقع (24) معركة , قال سيف بن عمر
التميمي : (( و تزاحفوا أربعة و عشرين زحفاَ)) (25) مع حصار متواصل و يبدو أن المعارك كانت
ضارية رغم أننا لم نقف على معلومات دقيقة و تفصيلية عنها أو عن عدد محدد لشهداء
المسلمين او قتلى الروم, غير اننا يمكن ان نستدل من شعر للقائد عبد الله بن المعتم
ان هناك عددا كبيرا من القتلى عندما قال (26) :
ونحن قتلنا
يوم تكريت جمعها
فلَله جمع
يوم ذلك تتابعوا
ونحن أخذنا
الحصن، والحصن شامخ
وليس لنا
فيما هتكنا مشايع
و يبدوا ان هذه المعارك قد أدت الى انهاك
المحاصرين في المدينة بدليل ما ذكره سيف في روايته من (انهم لا يخرجون خرجة الا
كانت عليهم، و يهزمون في كل ما زاحفوهم) (27).
و كان من نتيجة هذه المعارك الاستنزافية
المتواصلة ان اصبحوا: ((أهون شوكة و أسرع امرا ...)) و مما قوى موقف العرف و أضعف
الروم هو موقف القبائل العربية في تكريت و التي كانت مع الروم في اول الامر ثم
انحازوا الى العرب المسلمين و كانوا عيونا لهم على الروم الذين كانوا معهم، قال
سيف (29):
((وأقبلت العيون من تغلب، واياد، والنمر الى
عبد الله بن المعتم وأخبروه أنهم قد استجابوا له ...)) وكانوا قد أخبروا عبد الله
ابن المعتم بحراجة وضع الروم وصعوبة موقفهم في المدينة عندما قالوا له: أنهم كانوا
((لا يخرجون خرجة الا كانوا عليهم ويهزمون في كل ما زاحفوهم وتركوا امراءهم ونقلوا
متاعهم الى السفن ...)) (30)
و تمثل تطوع عرب تكريت في دعم العرب المسلمين المحررين و اسنادهم في
استجابتهم لشرط عبدالله بن المعتم عليهم عندما رأى هذا الموقف الإيجابي منهم رغم
طول فترة الحصار و مناعة المدافعين عن المدينة و ذلك عندما قال لهم ((ان كنتم
صادقين بذلك...)) فقد اشر قوله هذا انهم كانوا مبادرين لتقديم العون للعرب المحررين
و لذلك اشترط عليهم من قبل ان يمتحنهم في صدق موقفهم ان أرسل اليهم: (( ...
فأشهدوا ان لا اله الا الله , و ان محمدا رسول الله, و اقروا بما جاء به من عند
الله, ثم أعلمونا رأيكم, فرجعوا اليه بذلك, فردوهم اليه بالإسلام)) وكانوا كما
يقول سيف ((لا يخفون عليه شيئا...)(31).
و بعد ان اتضحت حقيقة موقف القبائل العربية في تكريت، أصبح موضوع حسم
المعركة قيد التنفيذ فقد وثق عبد الله بن المعتم بصدق مواقف القبائل العربية
بتكريت وأرسل اليهم: ((اذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا قد نهدنا الى الأبواب التي
تلي دجلة، وكبروا و أقتلوا من قدرتم عليهم فانطلقوا حتى تواطؤوهم على ذلك)) (32).
وهنا يمكن ملاحظة مدى الثقة الكبيرة التي اولاها القائد عبد الله بن المعتم
لأبناء قبائل تكريت، انه أفشى خطته لهم و طلب منهم المشاركة الفعلية و المؤثرة
لتحقيق نجاحها و لذلك حالما ((نهد عبد الله بن المعتم و المسلمون لما يليهم و كبروا،
كبرت تغلب و اياد و النمر و أخذ بالأبواب مما يلي دجلة...)) (33) لقطع طريق الانسحاب على العدو و لمفاجئتهم و
ارباكهم بقتال لم يخططوا لمواجهته بهذه الكيفية فقد قلبت القبائل العربية كل خطط
الروم و تقديراتهم للموقف و مواجهته و لذلك بادروا بالأبواب التي عليها المسلمون فأخذتهم
السيوف سيوف المسلمين مستقبلتهم و سيوف الربيعيين الذين اسلموا ليلتئذ من خلفهم (34).
كان هذا الموقف لقبائل تكريت قد أنهى الحصار وافتتح المدينة و حررها علما
ان هذا الموقف لعرب تكريت يماثل موقف عرب الحيرة في معارك القادسية و المدائن و
لكن في تكريت كان هذا الموقف اكثر وضوحا و قوة و تأثيرا و لذلك تمكن العرب
المسلمون المحررون من دخول المدينة اما غزاة الروم فانتهم قد انتهوا فيها الا من
فر هاربا عنها فقد ورد في نص الرواية ما ذكره سيف بقوله: ((فلم يفلت من اهل الخندق
الا من أسلم من تغلب و اياد و النمر ...)) (35) و كانت مواقف هذه القبائل متناسقة في
المعركة مع العرب المسلمين قال سيف عن هذه المواقف ما نصه : ((انهم كانوا
متساندين...) ثم دخل المسلمون المدينة و تم تامين أهلها و املاكهم جميعا.
و بذلك تم تحرير تكريت على نحو تام و أصبحت بوابة للفتوح باتجاه الموصل و
الجزيرة الفراتية ثم باتجاه شمال العراق و بخاصة شهرزور (36).
ثم جاء التوجيه من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الى سعد بن
ابي وقاص عندما ابلغه قبل تحرير تكريت بقوله الذي جاء به ((ان هم هزموا – أي
الروم- ان يأمر عبد الله بن المعتم بتسريح ابن الافكل العنزي الى الحصنين...)) وامره
بضرورة الإسراع والانطلاق صوب الموصل لاستثمار النصر بتكريت اذ أمر ابن الافكل بما
نصه ((اسبق الخير و سر دون القيل و أحي الليل و سرح معه تغلب و اياد و النمر
فقدمهم)) (37) و لذلك جعل للعرب مكانة كبيرة في عمليات التحرير لما بعد تكريت مما يدل
على مدى ثقة الخليفة الكبيرة بعرب تكريت الذين اسلموا في اثناء عمليات تحرير
المدينة و لذلك برز في هذه المرحلة رجال اشداء من قبائلها العربية شاركوا في تحرير
الموصل و منهم:
1-عتبة بن الوعل، أحد بني جشم بن سعد و كان عليهم.
2-ذو القرط.
3-أبو وداعة بن أبي كرب.
4-بشر بن ابي حوط.
و لذلك كان هؤلاء على مقدمة الجيش الإسلامي و أخذوا زمام المبادرة امام
الجيش الإسلامي مع رجال قبائلهم ((فسبقوا الخبر الى الحصنين ولما كانوا منها قريبا
قدموا عتبة بن الوعل فادعى بالظفر و النفل و القفل، ثم ذو القرط ثم ابن ذي السنينة
ثم ابن الحجير ثم بشر بن ابي حوط و وقفوا بالأبواب و قد أخذوا بها))
فمهدوا بأعمالهم العسكرية هذه مهمة تحرير المدينة امام المسلمين المحررين
فبعد ان تمكنت قبائل تكريت العربية من السيطرة على أبواب الموصل: ((سرعان ما انقلبت
الخيل مع ربعي بن الافكل حتى اقتحمت عليهم الحصنين فكانت إياها، فنادوا بالإجابة
الى الصلح فأقام من استجاب وهرب من لم يستجب الى ان أتاهم عبد الله بن المعتم فلما
نزل عليهم عبد الله دعا من لج، وذهب، ووفى لمن اقام فتراجع الهراب واغتبط المقيم وصارت
لهم جمعا الذمة والمنعة...وبعثوا بالفتح مع الحارث بن حسان (38).
وبذلك فتح الطريق امام المسلمين بالاتجاه شمالا لاستكمال تحرير مناطق ديار
ربيعة و بكر و مضر من شمال الجزيرة الفراتية حتى امتدت حدود الدولة الإسلامية لتتاخم
حدود الإمبراطورية الرومانية الجنوبية فقد تحولت تلك الحدود الى مناطق قتال فيما
هو معروف بإقليم الثغور و العواصم حيث كانت الحرب سجالا بين المسلمين و الروم طوال
العهدين الاموي و العباسي.
هوامش البحث
1-انظر عنه المزي، تهذيب الكمال في أسماء الرجال مخطوط نسخة دار الكتب المصرية،
ج1/ورقة 656 ابن حجر، تهذيب التهذيب ج4 (حيدر آباد, 1325) 295-296.
2-الذهبي، ميزان الاعتدال في نقد الرجال ج1 (القاهرة,1963) 255.
3-تقريب التهذيب، ج1 (بيروت 1975) 344.
4-فؤاد سزكين، تاريخ التراث العربي م1/ج2 (الرياض 1983) 133-134.
5- تاريخ الطبري 4 / 35 – 37.
6-البسوي، المعرفة والتاريخ، ج2 (بغداد 1974) 434 , الذهبي، ميزان الاعتدال
4/123.
7-ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج1 (بيروت, 1968) 354 , انظر بدران، تهذيب
تاريخ دمشق ج1 (دمشق 1328 هـ) 185.
8-ابن حجر، تهذيب التهذيب , 9/209 , الذهبي، المغني, 2/168.
9- ابن حجر، تهذيب التهذيب , 4/79 , الذهبي، المغني, 2/266.
10-البخاري، التاريخ الكبير ق3/ج2/350.
11-ابن ابي حاتم الرازي، الجرح والتعديل , 4/285.
12-تاريخ بغداد، ج2 (القاهرة , 1349 هـ) 162-163.
13- البلاذري، فتوح البلدان (بيروت) 324.
14-انظر عن منطقة الجزيرة الفراتية كتابنا الموسوم: (الجزيرة الفراتية و
الموصل – دراسة في التاريخ السياسي و الإداري (بغداد 1979) ).
15- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. ج4
(القاهرة , 1979) ص 25 , ابن الاثير، الكامل في التاريخ ج2 (بيروت 1965) ص 523.
16-الطبري، تاريخ , 4/35.
17- نفسه,4/35 ,ابن الاثير، الكامل في التاريخ 2/523.
18-ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، (القاهرة,1328 هـ) ج2 / 252.
19- الكاند هلوي، حياة الصحابة حققه الشيخ نايف العباس، ومحمد علي دولة، ج1
(دمشق 1989) ص227 , ابن حجر، الإصابة ,3/140 , 206, 221.
20-ابن حجر، الإصابة , 1/503.
21-نفسه, 1/277.
22-الكاند هلوي، المصدر السابق , 1/219, ابن حجر المصدر السابق 3/165 –
166.
23-الطبري، تاريخ,3/35.
24-نفسه, 4/35.
25-نفسه,4/35 , ابن الاثير، الكامل في التاريخ، ج2 (بيروت, 1965) 523.
26-ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج2 (بيروت، لا، ت) 39.
27- الطبري، تاريخ , 4/35 , ابن الاثير، الكامل , 2/523 , ابن كثير،
البداية والنهاية 7/71.
28-الطبري، تاريخ,4/35 ,ابن الاثير، الكامل,2/ 523.
29-الطبري، تاريخ , 4/35.
30-نفسه, 4/35.
31- نفسه, 4/35 – 34.
32- نفسه,4/36.
33-نفسه/4/36.
34- نفسه/4/36.
35- نفسه/4/36.
36-نفسه, 4/36 , ابن الاثير، الكامل,2/523, ابن كثير، البداية والنهاية ,
7/72.
37-البلاذري، فتوح البلدان, 324.
38-الطبري، تاريخ , 4/36.
39- نفسه, 4/36,ابن كثير, البداية و النهاية,7/72.
اضافات المدون : مما لاحظته في هذا النص البحثي , ان هناك تركيز على القضية القومية و ربما يعود ذلك الى ضغوطات الفتره التي كتب فيها البحث و كون الدولة في حينها تتخذ منحا قوميا بحت,حيث قمنا بفعل جريئ بتقليل بعض المصطلحات القومية مثل ( الجيش العربي الاسلامي و القيادة العربية الاسلامية والتحرير العربي الاسلامي) بحذف كلمة العربي التي كما يبدو كانت تبدو
زائدة و فيها ميول للقضية القومية بعيدا عن جذر الموضوع..
زائدة و فيها ميول للقضية القومية بعيدا عن جذر الموضوع..
يبدو هذا الانحياز القومي من خلال تركيز جزء المقالة الاخير على دور القبائل العربية في التحرير و الخ.
كما ان من الملاحظات هي التركيز على كلمة تحرير بدلا من كلمة (فتح) المستخدمة في المراجع التاريخية الاسلامية.
و كرؤية نقدية, فان الباحث قد اسهم في جمع و توضيح مصادر مهمه يمكن الرجوع اليها لكن مع الاكثار من العبارات و الجمل التشجيعية و التي اطالت الموضوع و ابعدته عن التركيز , فلهذا تظهر المقالة مطولة و غير مركزه.
ارجو ان تكون خطوة نشرنا لهذه المقالة بداية و خطوة في طريق اي باحث يريد التعمق في موضوع فتح تكريت مستفيدا من توفر وسائل البحث الحديثة التي لم تتوفر اثناء كتابة البحث المنشور اعلاه.
كما تجدر الأشاره الى أن بعض الهوامش المذكورة في الجزء المخصص لها لم تظهر في المقالة الاصلية و هي على الارجح خطأ طباعي اثناء نشر المقالة الاصلية
كما تجدر الأشاره الى أن بعض الهوامش المذكورة في الجزء المخصص لها لم تظهر في المقالة الاصلية و هي على الارجح خطأ طباعي اثناء نشر المقالة الاصلية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب رأيك او اضافتك هنا