البيئة الطبيعية في تكريت ( الموقع الجغرافي و المناخ )
نعمان دهش صالح العقيلي
استاذ جغرافية - كلية الاداب - جامعة بغداد
الموقع الجغرافي : -
تقع مدينة تكريت على الضفة اليمنى لنهر دجلة وعلى بعد ۱۸۰ كيلومترا شمال مدينة بغداد و ۲۳۰ كيلومترا جنوب الموصل . وتطل بحافة شديدة الانحدار على نهر دجلة يتراوح ارتفاعها بين ٥٠-٤٥ م تقريبا في منطقة شبه متموجة ترتفع على مستوى سطح البحر ب ۱۱۰ م ، تخترقها اودية وشعاب تنتهي الى النهر ، وتساير هذه الأودية والشعاب انحدار الارض الطبيعي من الغرب الى الشرق وتستد داخل الهضبة الغربية لمسافات متفاوتة . ومن امثلتها وادي شيشين وروميه في جنوبها والقائم الكبير والزلة وخر الطير في شمالها ، كما يوجد احد هذه الاودية الذي يخترق المدينة القديمة ويسمى الخرِّ . وتجري في هذه الاودية مياه الامطار بعد سقوطها ومن مسافات بعيدة حتى تصل الى نهر دجلة .
اما بنية المنطقة وتكوينها فاغلب صخورها جبسية وكذلك صخور رملية فضلا عن الرضراض وهي صخور ملية حصوية متكتلة Conglomerate . وقد استخدم السكان الحصي من النوع الكبير منذ زمن بعيد في بناء دورهم وهو يوجد بكثرة في ضفة النهر الملاصقة للحافات الغربية ويوجد بصورة حرة . وقد ساعد على ذلك سهولة صناعة الجص محليا وهي مواد بناء لاصقة ومتينة لها مقاومة شديدة . اما تربة المنطقة فهي ، نتيجة هذه التكوينات ، قليلة العمق لا يتجاوز سمكها بضعة سنتمترات ولكنها تصبح عميقة في المناطق المنخفضة والاودية التي تتجمع فيها . ولذلك فان المنطقة فقيرة الناحية الزراعية ، وينحصر النشاط الزراعي في المناطق التي تجود فيها التربة معتمدة على الري وبخاصة المياه الجوفية وهي على العموم حسنة التصريف .
(المناخ) :-
تشغل تكريت موقعا فلكيا يضعها عند دائرة عرض ٣٦ / ٣٤ شمالا وخط طول ٤٣/٤١ شرقا . وقد أسبغ هذا الموضع ظروفا مناخية عامة تسود المواقع الداخلية من القطر . لذا يتميز مناخها بشتاء بارد ممطر وصيف حار جاف ، وهي سمات عامة تطبع مناخ أقليم البحر المتوسط ، ولكنها سمات معدلة بظروف موقعها الداخلي . فالشتاء أقل مطرا اذ يتراوح مجموع المطر السنوي بين ۱۳۸٫۷ - ۲۸۲ ملم كما في عام ١٩٦٨ وعام ۱۹۹۲ على التوالي . وتصل الامطار الى ذروتها في الشتاء ، وان الامطار تتصاعد في مقاديرها من الخريف الى الشتاء اذ يسقط نحو نصف الكمية ، وثم تأخذ بالقلة في الربيع الى ان يتوقف سقوطها طوال فصل الصيف.
اما درجات الحرارة شتاء فهي أقل من معدلاتها في اقليم البحر المتوسط حيث تتراوح معدلات شهر كانون الثاني العظمى والصغرى بين ( ١٦،٢ الى ٣،٢ ) درجة مئوية في حديها الاعلى والادنى . ويصل معدل درجة حرارة شهر تموز ، وهو اكثر الشهور حرارة ، الى ٤٦ درجة مئوية في حدها الاعلى والى ٢٦ درجة مئوية في حدها الادنى (۱) وهكذا تعكس معدلات درجات الحرارة ظروفا قارية واضحة المعالم على نحو كبير ، في درجات الحرارة الشهرية واليومية .
اما الرياح السائدة فهي شمالية غربية وتكون الايام ممطرة عندما تسود المنخفضات الجوية التي يصاحبها سقوط الامطار فتكون جنوبية او جنوبية شرقية او جنوبية غربية . وقد وضعت ظروف المناخ آثارها في حياة السكان ونشاطهم الاقتصادي وطراز معيشتهم ، فاصبحت ليالي الصيف مريحة وانتشرت عادة النوم على سطوح المنازل وفي الاماكن المكشوفة
ودفعا لاثار المناخ القاري عمد السكان الى بناء جدران سميكة لدورهم ، اذ أن سمك الجدار يعمل على عزل درجات حرارة الجو الخارجي لذا فهي باردة نسبيا في الصيف ودافئة شتاء كما انشئت السراديب تحت الدور لتوفير جو مريح جو مريح صيفا وبخاصة في اوقات القيلولة اذ يزداد العزل الحراري على مستوى أقل من سطح الارض . وبعامة ، اذا سقطت الامطار مبكرا في فصل الخريف فان الناس يستبشررون بحلول سنة الوسم التي يكثر فيها العشب والكمأ عادة . كما ان ذلك يضمن للفلاح موسما جيدا لحيواناته ومحاصيله الزراعية . الا أن الزراعة التي اشتهرت بها المنطقة منذ القديم، ولاسيما الحبوب الصلبة والحبوب الصغيرة ، تعتمد على الري . فقد أشار المقدسي الى ان تكريت معدن السمسم (۲) وقد بقيت زراعة المحصول منتشرة في نواحي المنطقة حتى هذا الوقت الحاضر.
أثر البيئة والموقع الجغرافي :
. لقد ترك هذا الموقع الجغرافي آثارا واضحة الناحية الاقتصادية فتغيرت خصائصها مع تغير الزمن فنهر دجلة الذي يعد مصدرا مهما لحياة المدينة وديمومتها ، فالى جانب كونه يسقي المزروعات ويوفر الماء للاستخدامات المنزلية ، فهو شريان النقل الرئيسي يحرك تياره الاكلاك من الموصل الى بغداد حيث تنقل منتجات المنطقة الشمالية الزراعية بنوعيها النباتي والحيواني . وقد ساعد موقع تكريت المتوسط بين الموصل وبغداد وحصانة موقعها الطبيعي على تطورها . فهي قلعة ذات أهمية سوقية عسكرية وميناء نهري ساعد عمق الماء عند شريعتها على تعاظم حركة النقل فيها ، فأصبحت ميناء نهريا طبيعيا متميزا ترسو فيه الاكلاك والاطواف لغرض الراحة والتموين او تبديل بعض العاملين على ملاحتها .
وذلك لان حركة الاكلاك قد تستمر بعد تحركها من تكريت من دون توقف ، الا اذا حصلت ظروف مناخية معاكسة ، حتى تصل الى بغداد وترسو في شريعة النواب وسوق الجديد في الكرخ حيث تنتهي الرحلة وتنقل حمولة الاكلاك الى مخازنها الخاصة ثم يعود العاملون بها بعد ذلك برا الى تكريت ثم الموصل ولا يأخذون معهم سوى الجربان لاستخدامها ثانية عند عمل الاكلاك ثانية ، حيث تبدأ رحلة ثانية ، في قوافل تستغرق اربعة ايام حتى تكريت ومنها الموصل في خمسة ايام .
وقد استخدم الاتراك في الحرب العالمية الأولى وسیله الكلك هذه لنقل التجهيزات العسكرية والجنود والمواد الغذائية من المنطقة الشمالية الى بغداد وانشأوا مؤسسة اطلقوا عليها اسم ( الكلاك خانه ) . وقد استدعوا لذلك من جبهات القتال كل من يعرف صناعة الاكلاك وملاحتها ، وان ذلك مجزي للخدمة العسكرية . وقد استمرت عملية النقل بهده الواسطة حتى منتصف القرن الحالي ، عندما دخلت وسائط النقل الحديثة بالسيارة وكذلك القطار عندما وصلت سكة الحديد الى الموصل في اربعينيات هذا القرن . كما يؤدي النهر تأثيرا اساسيا في ربط المدينة بالقرى المجاورة حيث تتم عملية نقل المنتجات الزراعية .
و تزداد كثافة النقل النهري عادة بين المناطق التي تقع الى الشمال منها مصاحبة حركة تيار النهر الى الجنوب اما التصعيد ضد تيار النهر فقد كان أمرا صعبا ولاسيما في وقت ارتفاع منسوب الماء واشتداد تيار النهر ، وكان ذلك مقتصرا على سحب الزوارق على اختلاف احجامها واهمها ما كان يطلق عليها ( الطرادة ) فقد كان يجرها الاشخاص وهي فارغة الحمولة ثم يعودون بها مع التيار بكامل حمولتها .
وقد كان لهذا الامر أثره في رياضة الناس فاصبحت السباحة ضرورية يتعلمها ابناء المدينة منذ نعومة اظفارهم كي يستطيعوا التعامل مع النهر دون التعرض الى الغرق . وتتوقف عملية النقل النهري بالاكلاك صيفا وينشط النقل بالزوارق لقلة مناسيب الماء وضعف تيار النهر وارتفاع درجات الحرارة التي تؤثر في ( الجربان ) وهي مادة اساسية في صناعة الاكلاك ولذلك فقد اتجه نشاط سكان المدينة اقتصاديا الى زراعة شواطىء دجلة التي ينحسر عنها الماء وعلى الضفتين ، والجزرات التي تظهر في وسط النهر حيث تزرع بمختلف الخضروات وفي مقدمتها الرقي والبطيخ اللذان اشتهرا في حينها في اسواق بغداد . وهذه الاماكن تعد مصدرا مهما للمدينة من ناحية اقتصاديه وترفيهيه وهي تسمى الشطاطس التي اشتقت من كلمة شاطىء . أن قسما من هذا الانتاج في ثلاثينات هذا القرن كان ينقل الى بغداد بطريق النهر بواسطة اكلاك صغيرة بخاصة حيث يجد له سوقا رائجه . وينتهي هذا الموسم في اوائل تشرين الاول او أي وقت بدأ فيه زيادة مياه النهر التي تغطي هذه الشواطىء فيضطر المزارعون الى جمع المحصول عندها مبكرا وبصورة سريعة ونقله الى دورهم.
وتكريت ، اضافة الى ذلك ، كانت مركزا تجاريا لتوزيع ما يحتاجه سكان البادية المحيطة بها وكذلك القرى المجاورة من بضائع مصنعة منقولة من بغداد وكذلك لبيع منتجاتهم المتنوعة . ولذلك انشئت مخازن اطلق عليها اسم العلاوي لخزن الحبوب ( وخانات ) لاستقبال القوافل التي تأتي لتتبضع من المدينة.
ان الموقع السوقي العسكري الحصين الذي تتمتع المدينة به على نهر دجلة وبخاصة قلعتها الحصينة والتي يطلق عليها اسم تكريت القديمة ، وسهولة الدفاع عنه جعل منها معقلا ثقافيا مرموقا للكنيسة الشرقية التي أتخذت منها مركزا للمطران المافريان . وكان اول مافریان اسمه مروثا ٦٢٩م ولازالت اثار الكنيسة الخضراء المشهورة موجودة في القسم الجنوبي من المدينة القديمة .
ان الموقع الوظيفي لمدينة تكريت يتميز بظاهرة نادرة ، اذ تتميز ، بظهير مقفل قاحل من جهتها الغربية ، ليس فيه ما يرتبط واداءها الوظيفي الحضري الا بطرق محدودة تربط بين تكريت و بعدد وامتداده الى الموصل ، ولذلك يخلو ظهيرها الغربي من مراكز حضرية او تجمع سكاني حتى على مستوى صغير جدا . اما ظهيرها الفعلي فيقع الى الجهة الشرقية عبر نهر دجلة وشمالها وجنوبها . وهذه ظاهرة فريدة من نوعها، اذ يندر ان نجد مدينة يقطعها عن منطقة ادائها الوظيفي
نهر عريض سريع التيار يجري في وادي مرتفع الحافات ، وهذا يعني ان مدينة تكريت كانت تمثل نوعا من الموانىء النهرية تتكدس فيه بضاعة المنطقة الشرقية حتى تتخذ طريقها فيما بعد الى الموصل شمالا وجنوبا الى بغداد أي انها ميناء توزيع ومثل هده الموانىء تأخذ مستويات مختلفة ، فمنها في وطننا العربي ميناء بورسعيد ودبي على الخليج العربي . ففي الحالة الاولى يأخذ الميناء بعدا اقليميا ودوليا وفي الحالة الثانية تقوم دبي بوظيفة توزيع اقليمي دولي في آن واحد . فمدينة تكريت لها هذه الصفة وان اقتصرت على الناحية المحلية . فهي اذا ميناء محلي لتوزيع منتجاتها الزراعية ، وذلك يظهر جليا التوزيع الجغرافي لكثير من مراكز مراكز السكن في الشمال والجنوب والشرق منها على عكس ظهيرها الغربي .
ولابد ان هذه الصفات الطبيعية قد تركت أثرا ، واضحا على وظيفة مدينة تكريت على مر الايام ، فعندما كان النهر يكون طريقا رئيسا لحركة النقل كانت المدينة تنعم بنشاط اقتصادي ملحوظ ولكن هذه الاهمية اخذت تتناقص مع تطور وسائل النقل البري مما نجده في سكة الحديد في اوائل هذا القرن عندما وصلت الى سامراء قبيل الحرب العالمية الأولى ثم طرق السيارات في منتصفه . وهكذا بدأت مدينة تكريت ترتبط وظيفيا بسكة الحديد وطرق السيارات التي تحاذيها من جهتها الغربية .
ومعنى ذلك ان منتصف القرن العشرين شهد تحولا لنشاطها الاقتصادي فقد ضمرت وقلت حركة النقل المائي واتسعت على نحو متزايد ، حركة النقل البري . وان ربط جانبي النهر بجسر ثابت حول حركة النقل من الشرق الى الغرب واختزل الى حد بعيد صعوبة الاتصال بالجهة الشرقية . وانعكس هذا النشاط الاقتصادي ونموه على مستوى معيشة السكان وعلى دخل الأفراد واخذت مناطق السكن تشهد تحولا نوعيا من سعة البيوت ونوعية بنائها فضلا عن تزايد عدد سكان المدينة . فقد كان سكان المدينة ٥٧٧٠ نسمة حسب احصاء ۱۹٤٧ و ٧٧٦۰ نسمة عام ١٩٥٧ و ٩٨٦٣ نسمة من عام ١٩٦٥ ثم وصل عددهم الى ٢٦١٥٠ في عـام ١٩٧٧ (١) ..
(۱) الارقام مأخوذة من دائرة الانواء الجوية لمحطة تكريت المناخية
(۲) (المقدسي ، احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم مطبعة بريل ، لايدن ١٩٠٦ ط ۲ ص ۱۲۳
(۱) وزارة التخطيط ، هيئة التخطيط العمراني والتصميم الاساسي لمدينة تكریت ، بغداد ۱۹۸۱ ص ٨ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب رأيك او اضافتك هنا